مختارات مميزة من شعر لينا شيخو_ سوريا
_١_
عبق
ماكرٌ هذا المسـاء الذي ينفتحُ لوَرْد الأسئلة؛
الذي يتسـعُ لرذاذ الكلمات وهي تتراشق العطر بلهفة منتهاه؛
أغيبُ عنّي كما يليقُ بحُسْـنِهِ الفاتك..
لكنّه سُـدىً يتركني أنهمر..
يهملني في سـكون الحياد
وينحو إلى عرجون روحي ساهيًا في عنانِ السّـماء..
الحياد الذي يذوب في سَـورة الضّـوء
ويترك صوتي هائماً على وجهه في المشربيّات العتيقة ..
لم تحسنْ إليَّ قارئة الورْدِ هذا المسـاءـ كأيّ ما يصادف امرأةً ذائعة الشّـغَف.ـ
أهدرَتْ كلّي إليه وأبقتْ بعضي يناهزُ الوجدَ التليد في فسـحة البيوتات المدثرة بالحُبّ ..
أذرعُ النسـيم وأنضوي تحت العرائش السّـخيّة..
يناصبني الحبَق حيرتهُ، فتزدادُ ثقتي بسـطوةِ العَبَق على ذاكرتي.. وأديرُ لحنَ الماء ..
أحاولُ تجميعَ العصافير الفارّة من صدري لأهمسَ لأجنحتها حكايا الوريد دون أن تخنقني عَبرة المسافة أو أتوه في الهباء..
تسـردني أسـفار الدهشـةِ من أوّلها إلى آخِري ..
فأعيد إلى الفراشات ألوانها ..
لتبقى القصيدة قهوة الوقت ..
وأُمسـي أنا وارفـة المـآل
_٢_
إلى الأخير من كلّ شيء !
ـ " ظلّي" الذي يأخذني على محملِ التيه ..مجروحٌ يدَّثّرُ وجههُ باحتمال وجودي ..
ـ " كتابي " الذي يؤثّثُ أسـرارَ الدّهشـة في سِـربٍ من حكاياتٍ عبَرتني وتركتني غباراً تليداً ؛ رآني كثيراً وتوغّلَ بي في عاميَ الأخير ..
ـ " عامي " الأخيــر الذي سـقطَ من متاعهِ كلّ مايمكن أن يكون على هيئةِ مناسبةٍ تخصّ مايجدرُ به أن يكونَ فرحاً بربطة عنق وحتى بطاقة مؤجّلة .. !
- " البهاء " الذي خنقني حدَّ التلاشي ، غادرني إلى حياةٍ هاربة يركضُ فيها الياسمين كلّما استدارتْ إلى تلويحتي خلفها .
ـ " اليوم" الأخير من عامي المنصرم كن نبيلاً واحملْ ذاكرتي كأيقونةٍ في جيبك ؛ حتى أعيشَ فرحَ منفاي ! .
.ـ " الغيم " الكثيف الذي يحملُني حريرهُ إلى معارجِ الشّـطَط حيثُ آخرِ الشّـعرِ ومنتهى الجمال ؛ يجعلني خفيفةً منّي حتى أرى وجهي في ملامحِ قلبٍ يعرفهُ ..
ـ " الشّـطآن " التي كنتُ مَوْجَها.. تركتْ ندوبها على صدري كمنحوتةٍ من ملح الوقت تذوبُ مع كلّ نفحةِ حُبٍّ ناعمة ..
ـ " التقويم " الذي يلدُ أياماً تساوَى في عُرفها مَنْ يُرسلُ الماء في نســغِ يباسـها وبينَ من يقدحُ النارَ في حطَبِ أجسادها ؛
فسَـيْلُ الحربِ جرَفَ كل العناوين ، وترَكَنا نحن المسالمين في هذه الحَرب نهزُّ جذعَ الخلود ريثما تنضجُ ثمار وعْدِ السّـماء فتسقطُ أرواحنا للأعلى .
ـ " القطارات " التي سافرتْ فيّ لم تقرّرْ بعد أن تتوقف ، لازالت تحكي للطريق أحدوثة عن أجسادِ أهلِ المدينة التي تسْترُ مزقَ الحياة ..
ـ " البَشـر " الذين تشيّؤوا في فترةٍ وجيزةٍ من الحرب تحوّلتْ أشياؤهم إلى كائناتٍ حيّة بالرّغمِ من نفوقها ..
ـ " البيت " الأخير الذي بنى من بعضي لوحةً طينية له في الأفق القادم .
أرجوك ادخلْ بشجاعةٍ الفرسان إلى ألواني وترفّقْ بي كلما سقطتْ لبنـةٌ على قطرةِ روحي !.
ـ " الدفء " الأخير ـ الذي اعتراني ـ لا تخذلني !
حاولْ أن تحتفظَ بي كتُحفَةٍ باردة ترسلُ فيها بعضاً من روحك فأنا لا أحبُّ أن أعيشَ البردَ خارج حدودك ..
ـ " الوَرْد " الذي يتلوني في أوّلِ المسـاء حتى يفوحَ الصباح ؛ مولعٌ بالعصافيرِ التي تصحو مع نوافذي ، كلّما لمَسْـتُهُ يعصرني في ذاكرة القوارير المعتّقة .
ـ " الحنين " العظيم الملوّن بالنار ، اخرج الآن للنـور وأطفئني في قطرةِ مطَـرٍ حنونة.!
_٣_
أرى بالأخضـر ..
يشاكسني الليلُ الذي يترنّح على تخومِ الصباح ..
ـ النومُ الهانىء الذي يغفو على وسائدَ ليستْ لي ..
ـ النوم الذي يفلتُ يدي كلّما شدَدْتهُ ..
أفضّ الاشتباك القَلِق معهُ وأخيطُ إلى نعاسي قطعةً من حرير السّـلام ..
الغرفةُ تتثاءبُ والعتمة تسيلُ من جدرانها ..
في الجوار..
يجمعون الخيبات واللاءات في غرفٍ كبيرة ويسـدّون بها عرى الهدوء.
بابُ البيتِ يغيّرُ مكانهُ كلّما سمعَ وقْعَ خُطى الحَرب .
السّـقف الذي طارَ تحوّل إلى سـماء تتسـع لهدير النداءات ..
الجدران تميلُ عليّ وأصابعي مضفورة بالعجز ..
السـتائر تنكشف للضّوء ، الضّـوء الذي يتوه في ضوضاء المدينة يشبهني حين أوزّعُ ملامحي على وجوه المارّة .
من الشّـرفةِ التي كانت تطلُّ عليّ ، ألمحُ الشجرةَ ـ التي علّقتُ عليها تمائمَ الأمنيات ـ تسيلُ منها دموع الفرح .
ألمحُ امرأةً تمشـي خلفَ ظلّها ، وطفلاً يتمسّكُ بظلّ أمّهِ مكتوباً على ظهره اسم أبيه .
أتفقدُ الفساتينَ التي طالتْ أكمامُ شوقها ، الكتب التي تقرؤني ، الوَله الذي يؤرجحني ، الجوارير التي تحفظ تفاصيلي ، مآذن مدينتي التي انحنتْ لتكسرَ ظهور الغزاة ، الكنائس المصلوبة في ساحة وقائع الموت ..
حتى جارتي ـ التي تشـبه هذه الحرب ـ كلّما قدّمتُ لها القهوة بابتسامةٍ عفويةٍ لا تقرأ اكتمال البدرِ في فنجان المساء وتصرّ بحيادٍ تام على أنّهُ عرجونٌ عتيق يغيبُ في منتصف الشهر ويترك مكانهُ وجه أبي ..
وتطلقُ تناهيدها نحوي بنشوةٍ باهتة .
أغادرُ العالم الذي ترشحُ نهاياته بالدّمع ..
أجمعُ السّـكر من حبّات العنب وأذيبه في الوقت بدل الماتع .. أتمسّكُ بحبلِ مشيمتي وأنعطفُ إلى الوقت الهادىء الذي أمضيته في استسلامٍ تامّ لأمّي وهي ترسـمُ لوناً أخضرَ في قزحيتي ..
أمّي تلكَ السّـاقية التي لا تتوقفُ عن الجريان في أوردة حياتنا ..
أمّي ذاك العطرُ الذي كانت تذرفهُ
الفُلّة سـباعيّة الطّرحِ في شرفتنا ..
أمّي التي تتيحُ لمطرّزاتي أن تبتلَّ بالمطـر ، ويلفّني حنينها بشـالٍ من الوَرد .
لذا ليس بإرادتي أُشـرِقُ على صباحات دمشـق ، وأتحوّل إلى يخضورٍ في ذروةِ أيلولها ..
وأهمي كقطراتٍ تُسـلّي ضجرَ النضوب ...
وأكون قشـّة بين شفتي غريقٍ كتلويحة بقاء من الحياة الهاربة..
وأعود كما أحبّ غزالة المعنى الرشـيق وأسمحُ للغيم أن يركضَ فوقي وأعصرُ مواسـمَ للمطـر !
_٤_
تمـاهٍ...!
تكتفي المساءات أن نثمل في عبق اللهفة ..
كل الخوابي مالحة ..
لا كأس تليق بأسـرارٍ ينتهي إليها شـهد الذاكرة ..والفراديس المشتهاة ..
سنغرق في دمعة فريدة ونبحر في قطرة وجد ـ وإنْ كانَ يروقُ للحزن أن يشربني كاساً كاملة ـ لكننا ننجو في لحظة رحمة وارفة ..
حناجر النسـوة الجافة ، البريق العابر للقارات مودعاً عيون الصبايا تحت دثار من الأنين الجارح ..
مرَّ ذلك سريعاً من سمائي .. غير آبهٍ بندوب تصحو وتنام !
الحياد اليسير ..الذي يرقب احتمال صحو البنفسج في نعاسي ؛
الأيام المرّة التي لها مذاق واحد ..
لايشبه فرحتي الفارهة وانا أتشوّف الشمس في ذلك البعيد الأقرب..
الانتظار والضجر وسِـفْرٌ طويل مارق..
أحجار الطريق التي تلونتْ تكيّفاً مع إزهاري ..باتت في ورطة من نوبات المطر التي تعبرني دون أن تعنيني المظلات ..
لطالما كنتُ مولعةً بالمعاطف التي لها جيوب أخبّىء فيها ماتبقّى من حنينٍ ـ عالقٍ بأطراف روحي ـ عطفاً على شتاءات قادمة ..!
أيا قلب ..كيف يمكن لك أن تضمّني دفعة واحدة في صرّة القلق .. وتفلّ انشداهي في وهلة خاطفة ؟!
كن هادئاً ..رغم كلّ ماراقَ وأراق ..
رغم كلّ ما مال َ وأمال..
ارفعْ سقف الاحتمال
حدَّالتخلّي عن..
حدَّ التجلّي على..
حدَّ التحلي بـ ..
وابقَ ثابتاً تضيء في العراء !.
_٥_
زفرة حرّى..
منكسـرة كأجنحة أيامي
سـادرة في قلقي كدروب مدينتي إلى غدها..
مخضرّة كأمسـها ..
يابسة كأجساد موتاها..
منسـيّة كوجودها ، منهمرة كجودها ..
نافقة كحياتها ..
ذاوية كـعذوق نخلها ..
حزينة كأضواء جسـورها
متفرّقة كأشـلاء ذكرياتي هناك ..
مجتمعة كجراحاتها ..
مقفرة كقلوب المارقين في شوارعها ..
حرّة كصفير بيوتها ..
ضائعة كعناوين فرحها ..
صاخبة كآلات موتها..
عاتمة كسـحاب سمائها ..
مبحوحة كقصب فراتها ..
ناحلة كدموع الأمهات ..واسعة كبكاء رجالها ..
كثيفة كحرائقها ، يذروني رماد بيوتها ..
مجعّدة كوجوه أزقتها ..
شـاهدة كرشــيد بابها ..
طائشـة كصحف تاريخها
دافئة كمفاتيح أقفالها ...
عاتية كرياح شوقها ..
وادعة كعيون أفقها ..
هادئة ثابتة كيقين أوليائها ..
هائمة كحنين جذوري..
خرسـاء كضمير العالم ..!
يقال أنّها أنا ..!
_٦_
ليلٌ عاق..
أحتاجُ لقلبٍ طازجٍ لا ينصبُ الخيامَ للحزن ؛
لاتستريحُ فيه أصواتُ الأغيار ..
لا وقتَ يكفي لكي أتكيء على هشاشتي وأختفي كرماد خفيف ..
أيامنا باتتْ كفرسانٍ بأوديةِ السّراب.!
جدارُ غربتنا مهما عَـلا ، لبْنـاتُه كالترّهات ..
لم أتعظّ بأنّ طراوةَ الحظّ هي خرافةٌ منسـيّةٌ..
وأن هذي الحياة محض ذاكرةِ الرُّفات..
ريشُ الوسائدِ ألسـنةٌ لاتنام ..
معبأةٌ بالأثيـر وبالأرقِ الوثيـر ..
يتبعني السـِّوى وكلُّ ما اسـتوى ..
أخرج مني وأنثرُ الصبحَ في روحي
لينا شيخو/ سوريا
تعليقات
إرسال تعليق