مختارات للشاعر الأردني محمد زياد الترك
1ـ
"عندما تَطَلقت أمي ورحلت في حال سبيلها، أجبرنا والدي على عدم زيارتها، وكانت الأيام كفيلة بأن أنساها وأعتاد على زوجة أب سيئة.. أخي الذي كان يغيب عن المنزل لليلةٍ أو اثنتين.
لم يأبه حين يعود للعقاب الذي ينتظره، ومع الكثير من الركل والصفع كان يتظاهر أنه فاقد للوعي، فينفذ من الاعتراف عن مكان غيابه؛ كنت صديق أخي الوحيد مع ذلك لم يخبرني أيضًا أين كان يقضي الأيام التي يغيبها ربما لأني كنت جبانًا وأخاف من ظلي.
يومًا أتذكر أنه دام على غياب أخي أكثر من ثلاثة أيام وكان والدي يشتاط غضبًا ولكثرة ما أغدقت زوجته برأسه عليه أراد أن يسبب له موتًا مؤقتًا ما هي إلا ساعة واحدة كان ممددًا على أرضية الغرفة غارقًا بدمائه عندها أدركت أن الوحدة كفيلة أيضًا بجعلي أنساه هو الآخر.
في ليلةٍ باردة وجدت تحت وسادته رسالة خائفة قال فيها:
“ واصل زيارة أمنا فهي عمياء ولن تفرق صوتنا واصل رعايتها تحت التعذيب ولا تشعرها أن أحدنا قد رحل ”.
___________________________
2ـ
أنا الدمية المستلقية في سريرك الآن
الدمية المحشّوَّة بأحزانك
أنا باب خزانتك التي تخبئين فيها قلوب معجبيك
صندوقكِ الأمين، علبة مقتنياتك
وجهكِ المتكئ على كتفِ الإنتظار
مفتاح سيارتكِ التي دهست قبل قليل
حبيبك الذي ظل الطريق
أنا رجل الشرطة الذي يلاحقك
انا رصاصات مسدسه التي كادت أن تثقب حياتك للابد
هلا نظرتي من فضلك من شباك النافذة
ذاك المطب الجديد
هو أنا
حتى تسرب الماء اللعين في حوض أسماكك
أيضا أنا
بابكِ الذي لا يقرع
ولا يدفعه أحد
أنا
عائلتك التي توفاها الله في حادث سقوط الطائرة
كنت أنا خلل المحرك
وكنت العصفور الذي اسقط الطائرة
حتى تجاعيد وجهكِ
كلها أنا
يباس يديكِ
وعلبة المرطب التي لا تصنع بيباسهما شيء أنا
صديقتكِ التي أفشت سرك
وصديقتك التي سرقت حبيبك
وصديقتك التي تسرق شِعرك
كلهنَّ والله أنا
بالكاد تذكرين طفولتكِ
امكِ وقت جائها المخاض
فقدت وعيها من الألم
كان لا بدَّ لإمرأةٍ تصرخ في غرفة الولادة
حين طل رأسكِ
إذا التقيتي يوماً طبيباً مات بسكتةٍ قلبيه
إسأليه من الذي صرخ
سيجيبكِ أن الذي صرخَ أنا
أباكِ وقتها شلّهُ الفرح
ارادَ أن يعبر عن فرحته
اراد ان يوزع على الأقاربِ
قطعاً كثيرة من السكّر
لا تقلقي
فقد وزّعني عليهم بالتساوي
لم يقولوا (مبروك) بل قالوا أنا
كبرتي ما شاء الله
صار فارعاً طولكِ
بما يا ترى يقاس طولكِ وحدك
بمتر وخمسين من أنا
أستاذُ الكليةِ جديٌّ لابعد الحدودِ
لا ينجح في مادتهِ أحد
وتنجحين بكل بساطةٍ
اذا كان جانب صفرهِ قليلاً من أنا
إنها حياتك
حياتكِ الغير صالحة
دوني أنا
سأغلق بابكِ الآن
وقد رتّقت ثقوب قلبك
تصبحين على كثيرٍ
من الخير
لا تنسي أن تطفئي
أناكِ أو أنا.
____________________________
3ـ
عندما انتقلت إلى الله أختي الوحيدة، تاركةً وراءها رضيعاً بعمر اسبوع واحد، دُفنت سريعاً، بالكاد قبّلنا جبينها وهرولنا للمقبرة..
في بيتِ العزاء، كنا نمسك قلوبنا خشّية أن تقع
كلما سألنا معزٍّ أين سيؤول مصير الطفل!
نحن اخوة ثلاثة، اخوة ذكور
لا يدرون كيف تفشّت الضخامة فيهم
لا نقرب البيت، لا ندخله حتى لا يصطادنا قلب أمي المفجوعة ببنتها
لا نملك إجابه واحدة..
الطفلُ ليسَ بؤسنا وحده، الطفل يرعاه الله
بؤسنا أمي التي يبست، التي تلبَّسها الحزن
ولا تنسى
لا سبيل لنا لجعلها تتوقف عن الوجع في حضّرة البكاء..
فهذا الولدُ لا يهدأ،
لا صدرَ يسقيه السكينه
عندها قررنا أن نخرِسه للأبد، أن نرميه من أقرب نافذةٍ
لا تستطيع النظر منها أمي،
عزمنا على ذلك
وتسلّلنا لغرفته
تحسّس أحدنا مقبس الضوء، رفعه
اشتعلت قلوبنا
من الطفل الذي يرضع من نهد أمي،
نهدها الذي يفيض بالأمومة والرحمة
النهد الذي أوقف الموت عند حدّه.
____________________________
4 ـ
عندما كَبِرت وتَفشَّت الضَخامة في بدني، قلت زوجوني..
ولأن عائلتي جمعٌ كئيب من العاداتِ، والفقر علَّاقة هزائمها؛ طردني أبي من البيت
حالفاً بالطلاقِ إنْ عُدت لتكوننَّ آخر لحظات حياتي…
ولأن البرّ لا يخدش مزاجاً، تلحَّفت حزني ورحلت في وضح التمنّي؛
سرعان ما تعافيت من الخيبةِ، وصَنعت تحت ظِلّ الحاجة شابّاً إن اخطأَ مصادفةً برمية نردٍ واحدة يكسب على الفور شرف المحاولة..
عمِلت في مهنتين معاً
واحدة من صبح الله، والثانية من بعد العِشاء حتى منتصف الليل، كنت سيّداً للوحدةِ والغرفةِ التي تعوي جدرانها على مضجعي الحزين..
دام على غربتي أربع سنواتٍ
كنت أرسل سرّاً مبلغاً جيداً من المال عبر بوابة التحويل السريع للسيدة التي ترعى صغارها، وكنت اتصل مرة بالشهر لأطمئن على حالها تقول بدورها: كن بخيرٍ يا أمي
اقول لها أنا بخير ومع السلامة..
يوماً كُشف الأمر
ظنها لمّا كانت تخرج من البيت تذهب لخيانته، راقبها والقى القبض عليها متلبّسة
تستلم حوالة مالية من ولده الخارج من دفتر العائلة؛
حلف أيضاً بالطلاقِ إن أَرسلت (مال الحرامِ)
ليجعلنَّ نهاري مصيبة
قلت يا أبتي….
فقال يا غضيب..
مات الرأس العنيد
حضرت الدفن، وقرأت فوق القبر " وإن جاهداك "
ورجعت للعيش بين الجمع الكئيب
كنت راعياً لرعيةٍ تكبرُ وتتضخم متطلباتها؛
كبر الأولاد
وصغرت أمي
وحدي كنت أهرم في صمت، واقول هذا الشيب أصباغ
رفعت عن سقفِ عائلة تتنازع كانت افواهها
كاهلها
ولمَا انتبهت لنفسي قلت: زوجوني
فحلف الجميع بالطلاق أن أنانيتي هذه
سببٌ رئيس في توقف قلبي.
____________________________
5 ـ
(( عندما ترتفع الأسعار، يرتفع ضغط أبي..
ويصير البيت ساحة نكدٍ: تنكسر الكثير من الأواني، وينكسر معها الكثير من الخاطر، وتذبل على الأقل ثلاثة ورود!
في حالة الاستنفارِ هذه، يردد على مسامعنا جملته المعتادة: " هذا البيت ليسَ فندقا "!
وحتى نظلّ على الحياد بين غضب الحكومة وغضب الأب، نشد الرحيل للشارعِ نبحث عن عمل، أي عمل!
ولأن البلد ضيق صدره، والمحال متعبةٌ نعود أدراجنا للبيت خشية أن ننحرف!
أمي لا تفسر الماء بالماء..
ويزعجها أن يبيت الأولاد خارج الدار لأن حظوظهم ناقصة، فترعانا بطريقتها؛ تزيّت مفاصل البابِ حتى لا يصرُّ، وتلف المفتاح بحلقه ثم تمرره للخارج، وتترك حصّتنا من الأكل على واحدٍ من الرفوف..
يسأل واحدٌ من أخوتي:
"ماذا لو أن المرأةَ ترحل لجوار الله؟"
يلكمه الثاني حانقا
ولا أجيب أنا..!
فيسأل الثاني: "ماذا لو أن أبانا طلّقها؟"
نلكمه معاً
فأسألهم: "ماذا لو أنّنا أيتامٌ ولا يمسح على رؤوسنا أحد؟"
نفتح البابَ..
نختلس النظرَ، ونتأكد أن البيت غافٍ
يعبرُ الأول ويصل لفراشه
يعبر الثاني ويصل لفراشه
أحاول وراءهم المرور.. الغرفة بعيدة وضيقة، وقدماي لا تحملاني..ألوح بيدي ولا يراني أحد، أحاول أن أنادي لكن حنجرتي معطلة، وأنا خائفٌ أن تنقص العائلة واحدًا.. خائف أن تطمع نفسي بحصّتهم من الأكل؛ فكان الشارع أقرب..
و السوء كلّه متأهب في انتظاري..
وكنت الشاهد الوحيد على المدينة التي مات أخيارها
وأشعل العاطلون فيها فرصة العودة للعائلة!!))
____________________________
6ـ
أُفكّرُ جدّياً بالإستقالة
الأمر لا يحتاج أكثر من ورقةٍ واحدة
وعدّة أسطرٍ مختصرة:
سيدتي الأرض
أما بعد..
لقد عمِلت تحت أنيابكِ سنوات عديدة في مهنٍ مختلفة، كذلك عملت تحت سياطك المؤلمة بأقسى الظروف..
عملت كلب حراسةٍ لدى سيدٍ نبيل يسكن على طرفِ
كتفكِ المتجمد؛ كان ينام في كهفهِ هانئاً، وبدوري أراقب قطيعاً خملاً من الخراف..
عملت شجرةً في مؤخرتكِ تماماً، كان النهر دائماً ناشف ولم أصفرُّ يوماً ما
بعدها مباشرة وإثر تقريرٍ رفعه ديوانِ المحاسبةِ
لجلالةِ إستدارتكِ،
نقلت على الفور لأعمل محيطاً متجمدًا ناحية يدكِ الباردة..
لمّا صابني الملل
عملت تحت عنايتك ( إنسان )
وكانت هذه الوظيفة دلالةً على عدمِ رضاكِ
لهذا مكثت فيها السنواتِ الثلاثين الماضية،
" زهقت " وأنا غير مرئي وصارت أخلاقي سيئة
لم توافقي على إستدعائي القديم بالنقل لأي مهنة أخرى،
ماضرّك لو عملت لديكِ غراباً، كلَّما ضحكتِ نعقت
ما يمنعُ لو وقعتي واحدةً من الأوراقِ
أُنقلُ فيها لوظيفةٍ مقبولة
يكونُ لي فيها سنابلٌ
وطاقمٌ جميلٌ من المناجل.
___________________________
7ـ
كان يضربني أبي قبل عشرين عام
أنام بعدها فيختفي الوجع
أبي الآن يده مبتورة!
وينام طوال الوقت
ينام ولا يختفي الوجع
يناااااااااام ولا يستعيد على الأقل أصابعه
كيف أقنعه الآن
أن الأولاد عملٌ نجّس
أفسدهم كثر إحتضانك.
___________________________
8ـ
تطلقت أمي قبل خمسةَ عشر سنة
ولأن زوجها سِكير، ومعميّ قلبه
حملتنا في شنطة الملابس، واخذت تهرول في المدن المسعورة..
اتذكر كيفَ غفونا ليلتها على حجرها
قصَّت علينا اكثر من مائة حكاية، وداعبت يديها رؤوسنا حتى الصباح..
الأمُّ نبع قلقٍ
وتخرمِش ان لزم الأمر ذلك..
اتذكر في إحدى الليالي، وكنا نحاول النوم، خلف مبنى مهجور، وجّه الشاب الذي حاول الإعتداء عليها،
كان جسدها هدف سهل، لولا أن عيني الشاب لم تتجه إلينا، نعم أمي الهشّة مزقته، ووزعت علينا لحمه بالتساوي..
الزمان مريضٌ بالاستعجالِ
كُنا على حجرها دون أبٍّ ولا سقفِ بيت
وها كَبُرنا
اخي مهندس سِكير
واختي طبيبة مومس
وأنا بِكرهم قاضٍ مرتشٍ
جميعاً دفنا الماضي وتدلّلنا على مفارشِ حجرها
زوّجتنا وأنجبنا اولاداً
حملت كل الأحفاد بشنطتها القديمة
لتنام معهم خلف المبنى المهجور مرة ثانية.
___________________________
9 ـ
نلعب:
حجرة،ورقة مقص
الرابح يستمر
في العد
والخاسر نصفعه على يده
اخي الذي قطعت الحرب يديه
يخسر دائماً
يمد وجههُ للصفع
فنقبِّله.
___________________________
10ـ
كانت غرفة صغيرة للأشباح ننام فيها بعد وجبّة دّسمة من الضربِ، نسمع في العتمة هسيساً
ونسمعُ خطوات حذرة
كنا نرى من تحتِ اللحافِ عينينِ تلمعان!
نستغفر الله كثيرًا، نرجوه أن تتنزّل أُمّنا من السقفِ
نستمر في الدعاء:
أي شيءٍ
أي جسدٍ يتوسطنا
أي يد تبل ريق الغرفةِ وتفتح الضوء..
في الصبحِ نحملُ الفِراش خلسةً للسطحِ، ونرجع نتفقّد قلوبنا هل اصابها العطب؟
ونعدُّ كم كان نصيبنا من الكدمات؟
ـ محمد عشرة
ـ يوسف اثنتين
ـ محمد اربعة كانت من نصيب يوسف
ـ الرجل الذي بيده الهراوة: سحجة في الكاحل لخللٍ في التصويب..
في قرارة القلوب التي لم تعطب بالكاملِ
كنا نعرف أنّنا سنكبر يومًا ما، ونخرج للشارعِ احرارا
كنا على يقينٍ أنَّ ذلك سيتوقف كله، ولن نبوّل في ملابسنا، قانعين جدا أن الضخامة ستضع حدّا ما في الوقتِ المناسب للعنفِ..
ها نحنُ آباءٌ طاعنين في التذكرِ
قاطعين للرحمِ
لا رؤوسَ لنا ليمسحها كافل يتيمٍ
ولمّا نضرب زوجاتنا
تفتح الأشباح للأولاد قنينة من الكره.
تعليقات
إرسال تعليق